يتقدم مدونة مصر التعليمية بكتابة عن حياة هدى شعرتوى تمر اليوم الذكرى الـ141 على ميلاد هدى شعراوى، التى يحتفى بها مؤشر البحث العالمى جوجل، إذ ولدت فى 23 يونيو عام 1879، بمدينة المنيا فى صعيد مصر، وهدى شعراوى صاحبة تاريخ طويل فى الدفاع عن حقوق المرأة المصرية.
ما لا تعرفة عن هدى شعراوى والصورة المختلفة
هدى شعراوى سيدة يحبها المصريون ويكرهها المتأسلمون، هذه الثنائية طاردة صورتها دائما، فهى محررة المرأة وصاحبة الشرارة الأولى لحركة الوعى النسائى والحركة النسائية الوطنية فى مصر، بينما ينظر لها على الجانب الآخر من الكتب ذات الفكر الدينى الأصولى على أنها أخرجت النساء عن دينهم وعاداتهم وتقاليدهم.
ما لا تعرف عن كتب متعصبة ضد هدى شعراوي
كانت هدى شعراوى ضحية لبعض الكتب النتعصبة منها، ما قالته الكاتبة خولة بشير عابدين فى كتابها "عالم المرأة المسلمة" حين قالت: "ظهرت فى مصر مجموعة من النساء اللواتى لعبن دورا فى مصر لإخراج المسلمة عن دينها وتعاليمها ومنهن: هدى شعراوى التى قادت مظاهرة سنة 1919م لتحرير المرأة خطب فيها سعد زغلول وهو يخطب إلى أن ينزعن النقاب عن وجوهن ونزع هو بيده الحجاب عن وجه نور الهدى محمد سلطان (هدى شعراوى) فاتبعتها النساء فى نزع الحجاب.
فيما يذهب الكاتب محمود شاكر فى كتابه "التاريخ الإسلامى - ج 17: تركيا 1342 - 1409هـ 1924 - 1989م": "الغريب فى هذه المظاهرة (ثورة 1919) أن النساء خرجن ينددن بالإنجليز فلست أدرى لماذا انقلب غضبهن من معاداة للمحتل الدخيل إلى الحجاب، حيث نزعت كل من هدى شعراوى وصفية زغلول حجابها وأحرقته، وكذلك فعلت بعض النساء من أمثالهن، لا شك أنه كان وراء هذا التصرف أيد قذرة تحرك التظاهرات ضد الإسلام عن طريق بعض النسوة بينهن.
فيما يقول الكاتب سعيد عبد العظيم، فى كتابه "الأتقياء الأخفياء": "فى محيط المرأة حدث نوع من الإشهار لبعض النسوة لجرأتهن على دين الله ولتحللهن من شرع الله، وقد ركزت الجهات المشبوهة دوما على دور المرأة ودعوتها للاختلاط بالرجال وخلع الحجاب والتحلل الذى يطلقون عليه حرية المرأة والتحرر ومن جملة النماذج السيئة هدى شعراوى التى أسست الاتحاد النسائى عام 1923 وكانت أول امرأة تسافر بلا محرم إلى أوروبا وعقدت مؤتمرا نسائيا فى روما عام 1923، ونزعت الحجاب أمام الجماهير هى وسيزان نبراوى وداستاه بأقدامهما.
براءة هدى شعراوى
كانت هدى شعراوى من خلال هذه الآراء مادة خصبة لكتب حاقدة حاولت الإساءة لصورتها وتقديمها فى هيئة عدوة الدين وهو ما لم يكن له أصل فى الواقع، لكنها عادة المتأسلمين فى تشويه صورة كل من ينبغ بعيدا عن طريقتهم.
- طالبت بحق المرأة دون أن تعادى الرجل أو تحقر من دور «ست البيت»
ارتبط اسمها ارتباطا وثيقا بمعارك صدمت المجتمع، من خلع الحجاب لحق المرأة فى التعلم وسن قانون تحدد سن الزواج للفتيات، وغيرها من الحقوق المكتسبة التى استطاعت بطول النفس والصبر والمثابرة انتزاعها من مجتمع يعتبر أن مجرد خروج المرأة للتسوق جريمة، والمدهش فى رحلتها الطويلة ومعاركها التى انتهت جميعها بالنصر هو أنها معارك صادقة تماما ولدت من رحم البحث عن الحق والجمال، فلو تعمقت فى قراءة كتاب مذكرات المناضلة هدى شعراوى، ستجد أنها طفلة عادية جدا، فقط أرادت مزيدا من الاهتمام والعلم والمعرفة، ومزيدا من الحرية والرحمة، ووسط سعيها وراء ما أرادت اصطدمت بالمجتمع والعادات والتقاليد وثارات ضد الثوابت، وقد بدأت هدى شعراوى وفقا لمذكراتها هذه الثورة بشعورها بالغيرة من أخيها الأصغر سنا، هذا الشعور الذى تملك قلبها وهى طفلة تكبره بأعوام، بينما هو الصغير، يحصل على حب أكثر ومزيد من الحرية، ولم تخجل هدى شعراوى، وهى تقول فى مذكراتها: «كنت أحب والدتى الكبيرة، مشيرة إلى جدتها عن والدتها، وكنت أرتاح معها أكثر من أى شخص آخر، وكانت تجمعنا صفات مشتركة، وذات يوم طلبت منها أن تفسر لى حكمة تفضيل شقيقى على، فأجابنتى بابتسامتها الحلوة: ألم تشعرى الآن بالفارق الذى بينك وبينه، فأجابت الطفلة هدى شعراوى نعم، فأنا الكبرى وأنا الأولى، ويجب أن يكون نصيبى أوفر منه ومركزى أعلى من مركزه، فقالت الجدة، ولكنك فتاة وهو غلام، وليس هذا فحسب، بل أنت لست الفتاة الوحيدة وهو الولد الوحيد الذى عليه عمار الدار، أنت عندما تتزوجين ستذهبنى إلى منزل الزوجية، وستحملى اسم زوجك، أما هو فسيحيى اسم أبيه ويفتح بيته، هذا الجواب الصريح المعقول، رد إلى رشدى، ولم أتألم من سماعه بل نزل على قلبى بردا وسلاما، وزادنى حبٍّا لأخى الذى سيخلد اسم أبى الحبيب ويحل محله فى العائلة.
هذه الغيرة الحميدة التى اشتعلت فى قلبها تجاه أخوها دفعها للجهاد بحثا عن مزيد من الاهتمام الحقوق، هى غارت مما يحصل عليه الذكر حتى لو كان أخ، لكنها لم تحقد عليه أو تكرهه، وهو ما يتضح جليا فى حديثها عنه فى المذكرات، فقد كان هذا الأخ هو المفضل إليها وكان لها سندا وعونا طوال الوقت وجمعتهما علاقة قوية جدا، لكن كل ما كانت تحصل عليه حتى لو كان اهتماما زائدا نتيجة المرض، فذات مرة قالت لها جدتها: إن أخوها ضغيف البنية لذا يخاف على صحته، أما أنت قوية سليمة الصحة، ولم تخجل هدى شعراوى من التعليق على هذا الكلام فى مذكراتها قائلة: «تمنيت بعد ذلك أن أمرض لأتساوى معه فى حب والدتى، وتصادف أن تفشت الحمى فى البلد، وكنت أنا أول من يصاب بها فى المنزل، ففرحت بالمرض ولازمت الفراش وتأثرت كثيرا وكنت فى فرحة كبيرة باهتمام والدتى بمرضى، وأمرت فى الحال بإحضار طبيب العائلة، لكن سرعان ما انتقلت الحمى إلى أخى فتبدل الحال وانصاب الاهتمام عليه، حيث قام المنزل على قدم وساق وبدل طبيب العائلة الذى كان يعالجنى امتلأ البيت بالأطباء يدخلون غرفتنا قاصدين فراش أخى، ثم يقومون بفحصه ويغادرون الغرفة دون أن يلتفتوا إلى، رغم أن فراشه كان بالقرب من فراشى، وقد أثر فى ذلك كثيرا، وارتفعت الحمى من فرط تأثرى، ولكن أحدا لم يهتم بأمرى إلا بعد أن ازدادت حالتى سوءًا.
لم تمرهذه التجربة مرور الكرام على السيدة هدى شعراوى، فقد زادتها انكماشا وغيرة من أخيها وحقدا على كل من حولها، فتوجهت لحديقتى التى كنت أقضى فيها معظم أوقات الفراغ، وكذلك أمضى فيها وقت تلقى العلوم من مدرسى اللغات العربية والتركية والفرنسية، وهنا تدخل شعراوى فى معركة جديدة ناتجة عن شغفها باللغة العربية، فطلبت من معلمها أن يعلمها قواعد النحو، فقال لها بكل سرور، وفى اليوم التالى أتى وتحت إبطه كتاب النحو وهنا أوقفه «سعيد أغا» وهو المربى الخاص بهدى شعراوى وأخيها ومرافقهما الدائم، وسأله بعظمة: ما هذا الكتاب قال: كتاب النحو، طلبته الآنسة نور الهدى لتتعلم القواعد، فقهقه الآغا وقال له: خذ كتابك، لا لزوم للنحو، لأنها لن تكون محامية يوما من الأيام، وهنا تعلق شعراوى فى الفصل الثالث من مذكراتها: «أثرت هذه الصدمة الجديدة فى نفسى تأثيرا شديدا، وبدأ اليأس يتسرب إلى قلبى وشعرت بالملل حتى أهملت دروسى، وصرت أكره أنوثتى، لأنها حرمتنى متعة التعليم وممارسة الحياة الرياضية التى كنت أحبها، كما كانت تحول بعد ذلك بينى وبين الحرية التى كنت أعشقها.
لم تستسلم هدى شعراوى لهذا اليأس وأخذت فى البحث عن شىء آخر تحبه، وبالصدفة وقتها نصح الأطباء بشراء مهر صغير لأخوها ليتعلم ركوب الخيل، فطلبت واحدا هى الأخرى، وبالطبع رفضوا وقالوا إن ركوب الخيل للرجال، لكنها لم تستسلم، وقالت لهم إن جارتها ابنة الضابط تركب الخيل، وهنا لجأت الأم لحيلة وهى أن تخيرها بين شراء المهر أو شراء بيانو، وهو الطلب الذى كانت تطلبه من والدتها كثيرا، وبالطبع فضلت الصغيرة البيانو، لكنها لم تيأس بل فكرت بإيجابية هذه المرة قائلة فى مذكراتها: «أكسب البيانو وأتمتع بركوب حصان أخى كلما أردت».
هكذا سارت طفولتها من معركة بريئة لا تبتغى منها إلا العلم والبهجة والرقى، لكن المعركة الأكبر كانت فى انتظارها، وهى قصة زوارجها من ابن عمها التى تمت دون رضاها، وبشبه خديعة لها، فذات يوم وجدت البيت ينقلب رأسا على عقب وتجهيزات فى كل مكان تشبه تجهيزات العرائس وعندما سألتهم عن السبب قالوا لها إنه استعداد لعرس بنت أحد البشوات القريبين وأخبروها أنهم سيذهبون لتمضية الوقت فى منزل بحلوان، «وكانت حلوان وقتها مكانا يقصدونه للاستجمام والراحة»، ففرحت كثيرا وذهبت العائلة إلى هناك ثم فوجئت بإحدى صديقات والدتها تلبسها طرحة على رأسها، فشعرت بالأمر وتوجهت لغرفتها وهى تبكى، فذهب وراءها سعيد أغا قائلا لها: ابن عمتك سيتزوجك فمن توكلين، وتقول: هنا انفجرت فى البكاء لدرجة أننى سقطت على الأرض، وحدث جرح فى ساقى، فقال لها أغا: إن والدها لو كان حيا لأراد ذلك، فردت أفعلوا ما تريدون.
بعد أيام من هذه الواقعة عادوا جميعا للمنزل لإقامة العرس على ابنة عمتها الذى كان يكبرها سننا بعشرات السنوات، وكان متزوجا من أخرى وله منها ثلاث بنات، قد تكن قريبات فى أعمارهن من عمر عروسته هدى شعراوى، وهنا تتذكر هدى التى كانت طفلة وقتها لم تتجاوز السادسة عشر من عمرها أنها فرحت بالتجهيزات وزينة الحديقة والأنوار التى ملأت المنزل والمجوهرات التى تزينت بها: فرحت ظنا منها أن الأمر سيظل هكذا لكنها لخصت حالتها فى جملة قالتها فى مذكراتها: «فى اليوم التالى للزفاف وقفت فى الشرفة أنظر إلى الحديقة التى أقيم عليها العرس وكانت مزينة فوجدتها مهدمة تماما، أشجارها سقطت، وهنا أدركت أن حياتى قد سقطت أيضا مثل حديقتى الصغيرة التى كنت أراعاها بنفسى».
كل هذه الذكريات هى ما دفعت شعراوى لإعلان الجهاد والمطالبة فيما بعد بقوانين لتحديد سن الزواج وأخرى لتعلم الفتيات، وبناء دور رعاية للأطفال تشرف عليها النساء، وكان ذلك فى مراحل متقدمة من عمرها بعد إنشائها الاتحاد النسائى المصرى وتشكيل لجنة الوفد للسيدات، وخلال هذه الفترة شهدت شعراوى الكثير، فبين هذه الفترة وبداية عملها بالحياة العامة والسياسة مرت بتجارب مهمة وأكثرها أهمية انفصالها عن زوجها فترة كبيرة بعد عودته لزوجته الأولى دون علمها، وفرحت هدى بهذا الخبر لأنها تعيش معه راضية، فانفصلت عنه دون طلاق، وتعتبر هذه الفترة هى بداية النضال الحقيقى لها، وتذكر هدى شعراوى فى مذكراتها أنها فى إحدى المرات كانت فى الإسكندرية، فقررت أن تخرج للمحلات لشراء لوازمها بنفسها، وبالرغم من تذمر سعيد أغا، فإنها أصرت وكانت هذه التجربة هى الأولى من نوعها وتعتبر خروجا على التقاليد، بل اعتبرها البعض خروجا على الشريعة، لكنهم فى النهاية وافقوا بعد أن ألزموها باصطحاب سعيد أغا ووصيفاتها، كما ألزموها بالغطاء من الرأس للقدم، بحيث لا يظهر منها شىء حتى ملابسها تغطيها بإسدال، مضيفة فى المذكرات أن الموظفين فى المحل اندهشوا تماما، وقد وصفت هدى شعراوى هذه التجربة فى مذكراتها بالمريرة لكنها أصرت على تكرارها، فكيف تعيش المرأة دون حقها فى شراء ما يلزمها بنفسها؟
كانت الزيارات للمحلات بداية نضال هدى شعراوى، فخلال الطريق كانت تتحدث مع صديقاتها اللاتى كن يذهبن معها عن طرق التوصل لحال المرأة والترفيه عنها من خلال ممارسة الرياضة البدنية والخوض فى الحياة الاجتماعية ودراسة الفنون والأدب، وقررن البدء بإعداد ملعب للتنس فى حديقة مصطفى رياض باشا، وخلال هذه الفترة ظهر كتاب قاسم أمين «تحرير المرأة»، وتقول شعراوى فى مذكراتها: إن هذا الكتاب نبه الأذهان إلى ضرورة خلق نهضة عامة من خلال تثقيف المرأة وتحريرها، وكان بمثابة الحجر الأول فى بناء الرأى العام الذى قابله المجتمع بعاصفة من الاستنكار، لدرجة أن السيدات أنفسهن استنكرن تصريحات قاسم أمين ومبادئه، لأنها كانت تظهرهن في الثوب الحقيقى من عدم الكفاءة، وكان ذلك يجرح كبريائهن، فكن بذلك يشبهن الجوارى عندما تعطى لهن ورقة العتق من الرق، إذ كن يبكين على حياة العبودية والأسر.
توالت الأحداث بين ذلك فى حياة هدى شعراوى الخاصة والعامة، فقد عادت لزوجها بعد أعزام من الفراق وبعد ضغط كبير وإلحاح منه وتوسيطه للبعض حتى يعود لها، وبالفعل عادت لكنها كانت قد رسمت ملامح حياتها وحددت طريقها الذى لم تخرج عنه، وجاهدت مطالبة بالمزيد من الحقوق ولعل الأهم فى عودتها لزوجها هو إنجابها لولد وبنت منه، ومدى حبها لهما، وقالت المناضلة فى مذكراتها: إنها ذات يوم سألت نفسها لماذا لا تجيد الطهى ولا الحياكة مثل باقى النسوة، وبالفعل تعملت هذه الأمور التى رأت أنها مهمة لها كأم، ومن خلال هذا السرد يمكنك معرفة أنها لم تحقر من دور «ست البيت»، بل أخلصت له وأحبته ورأت أنه واجب مثل واجبها تجاه تحرير المرأة.
انتعشت فى هذه الفترة أنشطة النساء ومارسن العديد من الحقوق، فظهرت الأديبات وأسست النوادى للسيدات كما تشكلت لجنة الوفد للسيدات، وقامت الثورة وخرجت السيدات للمظاهرات حتى قررت هدى شعراوى القرار الأصعب والأكثر صداما فى المجتمع المصرى، وهو قرار خلع «البرقع»، أو خلع الحجاب كما هو معروف، والحقيقة أنها لم تذك هذه الواقعة كثيرا فى مذكراتها لأسباب تعلمها وحدها، لكن ربما رأت أن حصول المرأة على التعليم وحقها فى الاندماج فى الحياة الاجتماعية والسياسية وممارسة الرياضة أمور أهم من قضية خلعها للبرقع، واكتفت بذكرها للواقعة فى كلمات قالت فيها: «رفعنا النقاب أنا و«سيزا نبراوى»، وقرأنا الفاتحة ثم خطونا على سلم الباخرة مكشوفتى الوجه، وتلفتنا لنرى تأثير الوجه الذى يبدو ظاهرا لأول مرة بين الجموع، فلم نجد له تأثيراً أبداً، لأن كل الناس كانوا متوجهين نحو سعد متشوقين إلى طلعته عام 1921 أثناء استقبال المصريين لسعد زغلول، كما قالت: إن سعد زغلول أثنى عليها وأبدى إعجابه بما فعلته قائلا: «سررت عندما رأيتك بهذه الهيئة والحجاب الشرعى الذى قررتى ارتداؤه، وقد علقت فى مذكراتها على رحلتها الطويلة فى النضال للحصول على حرية المرأة وحقها قائلة: «لم أناضل لتحرير المرأة من قيود المجتمع بل ناضلت لتحرير الرجل من قيود المرأة الجاهلة».
همت السيدة هدى شعراوى «رائدة المرأة العربية الحديثة» بالخروج غاضبة من لقائها بالزعيم سعد زغلول باشا، فقام خلفها كى تعود.. وذلك فى لقائهما بمنزله يوم 5 أبريل 1925، وسعت هى لهذا اللقاء.. «راجع.. ذات يوم 5 أبريل 2019».
مضى الحوار عاصفًا بين الاثنين، وامتد أثره عند «شعراوى» إلى اليوم التالى للقاء، 6 أبريل – مثل هذا اليوم 1925، خاصة وأنها ردت عليه بغضب حين قال لها: «أتظنين أنه كان من السهل أن أوافق على مقابلتك بعد كل مافعلت بى؟»، ثم قامت للخروج، وتتذكر: «قام خلفى، وأمسك بيدى وقال: اعذرينى.. لقد تعديت حدود اللياقة، فلاتغضبى»، وتضيف: «أجبرنى على الدخول ثانية والجلوس واستئناف المناقشة بعد عتاب تناول بعض الموضوعات الشخصية، مثل عدم سؤالى عنه وهو مريض، فأعطيته الحق فيما هو محق فيه وأعطيت نفسى الحق فيما لاحق له فيه».. وعند استئناف الحديث قال: «من يقول إن سعدًا يكره الاتحاد؟ ألست أنا الذى بذلت كل جهدى لكى أمنع الانقسام والخلاف وأنا فى أوروبا؟ ثم بعد أن عدت إلى مصر ألم أذهب بنفسى لزيارة خصومى فى بيوتهم»، ويقصد بذلك زوجى على شعراوى»، واجتهدت فى أن ألم شعثهم».
ردت: «هذا صحيح، ولكنك بعد ذلك قمت فورًا تنشر الانقسام.هل نسيت خطبتك التى ألقيتها فى شبرا وغيرها».. «كانت خطبة شبرا يوم 25 أبريل 1921، وحسب الدكتور محمد حسين باشا هيكل فى مذكراته: «وصف سعد، عدلى يكن باشا وأصحابه بأنهم برادع الإنجليز».
واصلت أسئلتها: «لماذا لم تترك عدلى يسافر؟وما الذى صنعه عدلى؟إنه لم يفرط فى شىء؟ بل رفض مشروع كيرزون» وزير الخارجية البريطانية»، ورجع موفور الرأس موفور الكرامة، فهل كان يستحق المقابلة التى قوبل بها.. أضافت: لهذه المناسبة، هل لك أن تقول لى ماهى الخيانة التى ارتكبها ثروت حتى اقتنع بأنه خائن؟ هل لك أن تبرز ماعندك من الأدلة على خيانته، فقد داخلنى فى الرجل الشك وقتًا لما رميته بالخيانة، وكنت أنتظر منك عند تسلمك مقاليد الحكم بعده أن تقدم الأدلة على خيانته؟.
قال: «نعم.. كيف لم يرتكب أكبر خيانة؟ إنه انتهك حرمة منزلى فى غيابى وأمر بتفتيش أشياء من زوجتى». تصف «شعراوى» حالتها أثناء سماعها لكلامه: «هنا لم أتمكن من منع نفسى من مقاطعته قائلة: «هل هذا كل ما اٌقترفه،إذن المسألة شخصية لاتمس حقوق البلد فى شىء..وإن كنت ترى فى عمل ثروت هذا خيانته للبلد،فاسمح لى أن أخالفك فى هذا التقدير»، فرد بحدة قائلا: «لماذا تقاطعيننى.. دعينى أتكلم، كيف ترين هذا قليلا وقد أقدم عليه موعزا من الإنجليز؟. قلت: وما الذى يثبت لك ذلك؟.هل وجدت عندما وليت الحكم وتسلمت أوراق الوزارة مايثبت هذا الظن؟.قال: مرة ثانية: «ألم تقرأى الكتاب الأبيض؟. قلت: وماذا يقول ذلك الكتاب الأبيض؟». قال: «إذا كنت لم تقرئيه، فكيف تقولين إنك تشتغلين بالسياسة؟.قلت: «لقد قرأته، ولكن لم أجد فيه شيئًا مما تقول». قال: «ألم تقرئى فى الفقرة التى كتبت فيه لمناسبة قفل بيت الأمة والاعتداء على أشياء زوجتى بتفتيشها أن بعض رجال الدوائر الحكومية ارتاحوا لهذا العمل.. قلت: وهل هذا دليل أن ثروت كان ذلك المرتاح؟.ربما كان غيره، ولو فرضنا أنه ارتاح لهذا العمل فله بعض العذر، فثروت ليس ملاكًا يتغاضى عن كل المساوئ ولقد أسأت إليه كثيرا، فهو إنسان وعنده نفس، وله العذر إن كان قد تشفى فيك».
سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 5 إبريل 1925.. «سعد زغلول فى حوار عاصف مع هدى شعراوى بمنزله.. ويسألها غاضبا: «من أنت؟ ومن تكونين؟»
حمل كلام هدى شعراوى ألغازا فيما يتعلق بخلافات سعد زغلول مع رفاقه أثناء ثورة 1919، وفيها رفضه تشكيل عبد الخالق ثروت باشا للحكومة«3 أبريل 1922»، وخلافه الشهير مع عدلى يكن باشا،ويصف أحمد بهاء الدين الحالة بينهما فى كتابه«أيام لها تاريخ قائلا:«هذان العظيمان.. كل منهما جاء من نبع، وسار فى واد، كل منهما كان يمثل تيارا معينا..فاتفاقهما تحالف بين التيارين،وخلافهما صراع بين القوتين..يكتب فيه النصر لتيار والهزيمة لآخر، ومن النصر والهزيمة يولد التطور.. عدلى سليل الأسرة التركية العريقة، وربيب الطبقة الحاكمة فعلا، وابن الذوات الذى ولد ليجد كل شىء مهيأ لاستقباله: التعليم الرفيع، الآفاق الأوروبية الحديثة، الصداقات الكبيرة التى تمهد سبل الوصول السريع، فإن حدث وذهب إلى الريف فهو يذهب إلى أملاكه لاإلى بلدته.. وسعد الفلاح ابن الفلاحين، الذى نجد بين أخوته من يحملون أسماء شلبى وستهم وفرحانة، وإن كان من طبقة متوسطة ميسورة الحال».
يذكر بهاء، أن عدلى باعتباره رئيس وزراء سافر إلى لندن فى يوليو 1921 على وفد كبير يتكون من 30 عضوًا، ومكث هناك خمسة شهور متواليات اتصلت فيها المفاوضات مع الإنجليزعبثًا، ولما عاد «قابلته الجماهير بإلقاء الأوساخ والقاذورات على رأسه وهو جالس فى سيارته، لذلك فلم يكد يصل حتى قدم استقالته من الوزارة».
ومازال للحوار بقية..
توجهت السيدة هدى شعراوى إلى منزل سعد باشا زغلول الساعة الحادية عشرة صباح يوم 5 إبريل «مثل هذا اليوم - 1925»، وفقا لمذكراتها، مضيفة: «كانت» خادمة أفرنجية تنتظرنى، وأبلغتنى بصوت مضطرب: «سيدى يعتذر لمرضه عن النزول، فإذا كنت تنوين مقابلته ولا يصعب عليك الصعود إلى الطابق الأعلى فتفضلى، فقلت لها: «أستطيع الصعود.. فقط أخبريه بحضورى»، فعادت بعد قليل تدعونى للصعود».
تتذكر «شعراوى» أنها، وجدت سعد باشا على كرسى بمسندين، ولما رآها هم قائما ببطء، وطلب منها أن تعذره إذا كان أتعبها بالصعود لشعوره بتعب فى صدره على أثر نزلة شعبية، وسألها عن صحتها وأولادها، وسكت بعدها، لتبدأ هى فى شرح سبب زيارتها.
تعد هدى شعراوى «23 يونيو 1879-12 ديسمبر 1947» رائدة حركة تحرير المرأة فى مصر، وهى زوجة «على شعراوى باشا»، أحد الذين حملوا عبء الكفاح مع سعد باشا فى المراحل الأولى لثورة 1919، ووفقا لمذكراتها فإن زوجها اختلف مع سعد وهم فى باريس لحضور مؤتمر السلام عام 1919 لعرض قضية استقلال مصر، وعاد من باريس ولم يستقبل سعد وقت عودته إلى القاهرة.
كان المناخ السياسى مضطربا وقت زيارتها لسعد، وأبرز مشاهده قرار الملك فؤاد بحل مجلس النواب بعد جلسته الافتتاحية وانتخاب سعد زغلول رئيسا له، ورفض الملك استقالة وزارة زيور باشا، ووفقا لعبد الرحمن الرافعى فى الجزء الأول من «فى أعقاب الثورة المصرية» ثورة 1919»، مؤكدا: «لم يعش ذلك المجلس سوى تسع ساعات، لأنه انعقد فى الحادية عشرة صباحا وحل فى الثامنة مساء، فكان أقصر المجالس النيابية عمرا».
دفعت هذه الأحوال «شعراوى»، لأن تكتب رسالة إلى «سعد» تقول فيها، إنها تضم نفسها إلى جانب الداعين إلى الاتحاد فى مواجهة إيعاز الإنجليز بهدم الوفد والأحزاب الأخرى بتكوين حزب جديد اسمه «الاتحاد»، وأنها جست نبض حزب «الأحرار الدستوريين»، فوجدت من جانبهم ميلا..وتؤكد أنها طلبت مقابلة سعد لهذا الغرض فرحب بقدومها فى الوقت الذى تختاره من العاشرة صباحا أو الخامسة مساء.
تسجل «شعراوى» فى مذكراتها حوارا مثيرا وعاصفا ونديا بينها وبين سعد فى مقابلتهما، سألته، إذا كان يوافق مبدئيا على الغرض الذى جاءت من أجله، فأجابها: «يجب أن نتناقش أولا، قلت: «الموضوع واضح، فإما أنك تشعر مثلى بأن الحالة السيئة التى نحن فيها الآن تحتم الاتحاد، وإما أنك لا تشاركنى هذا الرأى، وفى هذه الحالة لا فائدة من المناقشة»، قال: سبحان الله، كيف دون مناقشة يمكننى أن أقول شيئا؟، من يكره الاتحاد؟ لا أحد يميل للاتحاد مثلى، ولكنى أريد أن أعرف مع من سيكون؟ وعلى أى قاعدة ولأى غرض؟ قلت: «أما السؤال الأول، فالاتحاد يكون مع خصومك، وعلى القاعدة التى تضعونها بعد التفاهم..وأما الغرض فهو واضح كالشمس.. إخراج البلد من المأزق الذى هى فيه بسبب الانقسام، ومنعها من السقوط فى الهوة السحيقة التى ستسقط فيها إن لم تتحد الأحزاب وتعمل كلها يدا واحدة لمقاومة عدو الجميع.. العدو الخارجى»، قال: أتريدين أن تتحدى مع من هدموا الدستور؟، قلت: ومن هدم الدستور؟ كيف يكون وراءك أربعة عشر مليونا من الأنفس»، عدد سكان مصر وقتئذ، ثم يأتى «زيور باشا»، بمفرده ويخرجه منه، ثم لماذا لم تقل له عندما طلب منك الخروج وقفل مجلس النواب ما قلته عندما طلب الإنجليز نفيك: «أنا هنا بقوة الأمة ولا أخرج إلا برغبتها؟».قال متأثرا: «لم يكن هناك وقت للتفكير»، قلت: «سبحان الله، هل فى مثل هذه الظروف ينطق القلب أم العقل؟، كان يجب أن تخرج هذه الكلمة من قلبك، فالوطنية الصادقة تنطق بما يوافق الظروف».
تتذكر «شعراوى» أن «سعد» أطرق ساكنا ثم رفع رأسه، وقال: «لماذا تؤاخذيننى على كل ذنب ولا تفعلى ذلك مع غيرى؟، قلت: «غيرك مسؤول عن نفسه ولا تؤيده الأمة، فإذا أخطأ فلنفسه، أما أنت فتتكلم عن أربعة عشر مليونا، فإن أخطأت، أخطأت الأمة معك، ولذلك أحاسبك على كل ما تفعل، فقال: ومن أنت، ومن تكونين حتى تعطى لنفسك هذا الحق؟».قلت: أنا مصرية واحدة من الأربعة عشر مليونا الذين تتكلم بلسانهم، ولذلك أجد لنفسى الحق فى أن أحاسبك على ما تفعل، وفضلا عن ذلك لا يمكنك أن تنكر من أنا، ولا ما قمت به من خدمات لوطنى، ولا لبيتى وأسرتى من الفضل والمساهمة فى هذه القضية.. قال: هل نسيت كل ما فعلته فى؟.. قلت: «ليس هذا مجال عتاب»، قال: «لا بل يجب أن نتعاتب، أتظنين أنه كان من السهل على أن أوافق على مقابلتك بعد كل مافعلت بى؟»، فأجبته على الفور: كنت أظن أنك ستفرح وتفخر اليوم بأنى نسيت كل أعمالك، وأننى دست على كرامتى بعد ما فعلته صحفك فى، وكنت أظن أنك ستقدر وطنيتى هذه، وتعرف أن ما دفعنى إلى ذلك هو حبى لوطنى وثقتى بأنك ركن متين فى بناء النهضة، فلما رأيت كل المعاول تعمل لهدمك، جئت لأقدم لك مساعدتى ناسية كل شىء، وما دمت لم تقدر هذا كله فنهارك سعيد»، همت «شعراوى» بالانصراف، فكيف تصرف سعد؟